الاحتلال الفرنسي للجزائرمقلاتمواضيع مقترحة

نارة وصمود الأوراس: كيف هزم الشاوية حملة كانروبير سنة 1850؟

تظلّ معركة نارة من بين أكثر صفحات المقاومة الشعبية في الأوراس قوةً ووضوحًا، لما مثّلته من صمود استثنائي أمام حملة فرنسية كبرى قادها أحد أبرز ضباط جيش الاحتلال في تلك الفترة. وقد وثّقت الصحافة الفرنسية تفاصيل هذه الحملة، وهو ما يسمح اليوم بقراءة المعركة من منظور عسكري استعماري مقابل الرواية الشعبية والوطنية.

نارة… قرية جزائرية صنعت تاريخها بالصمود

تقع قرية نارة ضمن بلدية منعة بولاية باتنة، في قلب جبال الأوراس، وتمتاز بتضاريس صعبة جعلتها حصنًا طبيعيًا عبر التاريخ.
واشتهرت القرية لاحقًا بأنها المكان الذي يحتضن ضريح الشهيد مصطفى بن بولعيد، أحد مفجّري ثورة التحرير الجزائرية، حيث تُقام سنويًا فعاليات لإحياء ذكراه والتعريف بتراث المنطقة وتاريخها المقاوم.

هذا الإرث النضالي المتجذر يفسّر جانبًا من شراسة المقاومة التي أبداها أهل نارة خلال حملات الاحتلال في منتصف القرن التاسع عشر.

الكولونيل كانروبير: قائد الحملة وشخصية بارزة في الجيش الفرنسي

قاد الحملة العسكرية على نارة ضابط فرنسي صاعد آنذاك هو الكولونيل فرانسوا كانروبير François Canrobert، الذي سيتحوّل لاحقًا إلى واحد من أشهر الجنرالات في الجيش الفرنسي، ثم قائدًا أعلى لجيوش فرنسا خلال الإمبراطورية الثانية.

تميّز كانروبير بأسلوب هجومي سريع يعتمد على:

  • القوة العددية الضخمة
  • استخدام المدفعية في القرى المحصّنة
  • سياسة “تدمير الممتلكات” لكسر إرادة السكان
  • محاولات الترهيب والمفاوضة قبل الهجوم النهائي

وتُظهر التقارير الفرنسية أن كانروبير كان يعتقد أنّ إخضاع نارة سيقدّم مثالًا رادعًا لبقية مناطق الأوراس.

شهادات الصحافة الفرنسية: نارة تستعد للقتال حتى النهاية

ورد في أحد التقارير العسكرية الفرنسية:

«Toutes les nouvelles… s’accordaient à présenter Narah comme résolue à braver nos menaces et à se porter aux dernières extrémités.»
«كل الأخبار كانت تُجمع على أن نارة عازمة على تحدّي تهديداتنا والذهاب إلى أقصى حدود المقاومة.»

وأضاف التقرير أن:

«Les contingents de l’Oued Abiad étaient accourus se renfermer dans ses murs.»
«مقاتلي وادي الأبيض توافدوا ليلتحقوا بنارة ويغلقوا أبوابها دفاعًا عنها.»

هذه الشهادة وحدها تكشف عن حجم التعبئة الشعبية التي سبقت المعركة، وتؤكد أنّ نارة لم تكن وحدها بل جزءًا من تحالف واسع من قرى الأوراس.

الشاوية في الصفوف الأولى: معركة إطلاق النار الأولى

تذكر الصحافة الفرنسية لحظة المواجهة الأولى:

«Les Chaouis ouvrent le feu dès qu’ils aperçoivent ces têtes de colonnes, puis s’élancent à leur rencontre.»
«ما إن أبصر الشاوية رؤوس الأعمدة العسكرية حتى فتحوا النار، ثم اندفعوا لملاقاتها.»

وتضيف:

«À ce moment, le colonel ordonne la charge.»
«في تلك اللحظة أصدر الكولونيل أمر الهجوم العام.»

هذه العبارات تكشف أنّ سكان الأوراس كانوا سبّاقين للهجوم، وأنّ المعركة لم تكن دفاعًا ساكنًا بل مقاومة نشطة أربكت التقدّم الفرنسي.

تدمير البساتين… سلاح العدو لإضعاف السكان

كما تذكر المصادر الفرنسية أنّ كانروبير حاول تكرار تجربة زعاطشة عبر ضرب اقتصاد السكان قبل اقتحام المدينة:

إرسال فرق لهدم وتخريب بساتين الفواكه الممتدة على المصاطب، باعتبارها مصدر رزق أساسي لأهالي نارة.

لكن هذا الأسلوب لم يؤدِّ إلى الاستسلام، بل زاد من إصرار المقاومين.

الاقتحام الأخير وسقوط المدينة

كانت نارة عبارة عن ثلاث مجموعات قروية مبنية على صخور شاهقة، محمية بسلالم محفورة في الجبل وأبراج حجرية، مما جعلها موقعًا صعبًا حتى على الجيوش المحترفة.

ورغم القتال العنيف الذي دام أيامًا، وسقوط عدد كبير من السكان، فقد احتاج الجيش الفرنسي إلى خمس ساعات من المعارك المتواصلة داخل الممرات الضيقة.

وفي 5 يناير 1850، أعلن الاحتلال سقوط نارة بإطلاق 21 طلقة مدفعية تجاه المنازل والمواقع المرتفعة.

لكنّ هذا السقوط العسكري لم يُلغِ الانتصار المعنوي لسكان المنطقة، الذين واجهوا واحدة من أقوى حملات الجيش الفرنسي في القرن التاسع عشر.

خاتمة: نارة… ذاكرة مقاومة حيّة في قلب الأوراس

لم تكن معركة نارة مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت ملحمة شعبية شاركت فيها القرى والقبائل المجاورة، وأثبتت أن روح المقاومة في الأوراس لم تبدأ مع ثورة 1954، بل لها جذور ضاربة في التاريخ.

واليوم، تُعيد قرية نارة إحياء هذا الإرث من خلال:

  • تخليد ذكرى الشهيد مصطفى بن بولعيد
  • تنظيم فعاليات تاريخية وثقافية
  • الحفاظ على ذاكرة المقاومة الشعبية للأجيال القادمة

إن تاريخ نارة، كما تنقله الوثائق الفرنسية نفسها، يفتح بابًا مهمًا لفهم طبيعة الإنسان الأوراسي: صلابة، كرامة، ورفضٌ مطلق للركوع مهما كان الثمن.





الثورات الشعبية قبل 1954



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى