الأمير عبد القادر في الأستانة

الأمير عبد القادر في الأستانة: لحظة تاريخية وبطل لا يُنسى
إسطنبول، تركيا – في مثل هذه الأيام من عام 1853، وطأت قدما الأمير عبد القادر الجزائري أرض الأستانة (إسطنبول حاليًا)، عاصمة الخلافة العثمانية آنذاك، بعد رحلة شاقة قضاها في الأسر بفرنسا. لم يكن وصوله مجرد حدث عادي، بل كان احتفاءً ببطل قاوم الاستعمار، ورُمزًا للعزيمة والوفاء، استُقبل فيه كالأبطال وعُومل معاملة الملوك، مما عكس مكانته المرموقة في العالم الإسلامي.
وصول مهيب واستقبال ملكي: الأمير يطأ أرض الإسلام بعد سنوات الأسر
غادر الأمير عبد القادر فرنسا في 21 ديسمبر 1852 على متن السفينة الفرنسية “لابرادور” متوجهًا نحو تركيا. في طريقها، توقفت السفينة في جزيرة صقلية، حيث استُقبل الأمير بحفاوة بالغة من قبل حاكمها الذي اصطحبه في جولة بالبلاد، وهو ما يعكس التقدير الكبير الذي كان يحظى به أينما حل.
وصل الأمير الأستانة في 8 يناير 1853، بصحبة الضابط الفرنسي بواسوني. كانت هذه هي المرة الأولى منذ خمس سنوات التي يطأ فيها أرضًا إسلامية بعد أسر طويل. لم يضيّع الأمير وقتًا، فتوجه مباشرة إلى مسجد توبخانة (Tophane)، حيث أدى ركعتي شكر لله، وهي سُنّة يؤديها المسلمون عند دخول بلدة أو العودة من السفر، مظهرًا بذلك عمق تدينه.
بعد الصلاة، زار ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن يزيد الأنصاري عند سور القسطنطينية، تأكيدًا لولائه لتاريخ الإسلام العظيم. ثم توجه إلى جامع آيا صوفيا، والتقى بالصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا، الذي أكرمه وأحسن استقباله، مما يؤكد على الأهمية التي أولتها الدولة العثمانية لشخص الأمير.
لقاء السلاطين: قصيدة الأمير تُخلد مناقب آل عثمان
بعد يومين من وصوله، دُعي الأمير لمقابلة السلطان عبد المجيد، الذي رحب به ترحيبًا حارًا، مثنيًا على أفعاله وخصاله في الذود عن الدين والوطن. لم يتوانَ الأمير عن التعبير عن امتنانه وتقديره، فألقى قصيدة بليغة أمتدح فيها مناقب ومفاخر آل عثمان وحرصهم على الدفاع عن الإسلام وسعيهم للحفاظ على عزته وقوته، داعيًا له بالنصر.
في هذه القصيدة التاريخية، قال الأمير:
“يا رب يا رب الأنام ومن الباذلون يوم الحرب أنفسهم
يا رب أيد بروح القدس ملجأنا إليه مفزعنا سرًا وإعلانا
ابن الخلائف وابن الأكرمين ومن عبد المجيد ولا تبقيه وجلانا
أحيا الجهاد لنا بعد ما درس. توارثوا الملك سلطانًا فسلطانا.

فانصره نصرًا عزيزًا لا نظير له وضاعف المال أنواعًا وألوانًا
واحفظ علاه وأرسل يا كريم له. حتى يزيد العدا همًا وأحزانا.
واهدم وزلزل وفرق جمع شانئه من الملائكة حفاظًا وأعوانًا
وانصر وأيد جيش نصرته. واجعل فؤادهم بالرعب ملانا
أنصار دينك حقًا آل عثمانا لله كم بذلوا أنفسًا وأبدانا.”
الأضواء مسلطة على الأمير: زوار ومحبة جماهيرية
خلال إقامته القصيرة في الأستانة، توافد على الأمير عدد كبير من الزوار من مختلف الشرائح. كان من بينهم جزائريون سبقوا الأمير إلى المشرق، وعلماء، وأعيان، بالإضافة إلى قناصل وممثلي الدول الأجنبية. كما زاره البريطاني السير هنري تشرشل، مؤلف كتاب “حياة الأمير”، مما يؤكد على اهتمام الغرب بشخصية هذا البطل الفذ.
يذكر صاحب “تحفة الزائر” محمد بن عبد القادر أن الناس كانوا يزدحمون لمشاهدة الأمير أثناء إقامته، ويحرصون على رؤيته في الطرقات التي يمر بها ورحاب منازل الوزراء والعظماء التي يقصدها. هذا الازدحام يعكس مدى التقدير والاحترام والمحبة التي كان يحظى بها الأمير في نفوس المسلمين.
