عباس لغرور… وهج الثورة ومصير الأبطال

في قلب الأوراس، حيث تتعانق الجبال والغيوم، وتتنفس الأرض حكايات المجد من صخرها، وُلد عباس لغرور في صباح يوم من أيام جوان 1926، في قرية انسيغة التابعة لولاية خنشلة. هناك، وسط الدروب الترابية ورائحة الحقول الطازجة، نشأ فتىً لا يُشبه الأطفال، يحمل في عينيه بريق تمرّد مبكّر، وفي قلبه بذور ثورة كانت تبحث عن زمانها ورجالها.
لم يكن ابن الفلاح البسيط، محمد بن عمار، يعلم أن ابنه سيُدوّن اسمه بين كبار قادة الكفاح التحريري. في طفولته، كان عباس يتنقّل بين مقاعد المدرسة الفرنسية وألواح الكتاب القرآني، يقرأ بلُغتين ويصمت كمن يُخفي شيئًا في داخله… شيئًا أكبر من عمره.
اشتغل في شبابه في البريد، ثم طباخًا لدى حاكم خنشلة… قبل أن يُطرد ويُسجن بعد انكشاف نشاطه السياسي، فيتحوّل تاجرًا للخضر، لكن محله لم يكن إلا غطاءً لمقر سري يجتمع فيه الوطنيون، ويتشاور فيه العازمون على إسقاط الاستعمار.
في 08 ماي 1945، دوّى صوته في شوارع خنشلة، وهو يهتف مع الجموع بالحرية، ويرفع علم الجزائر لأول مرة في وضح النهار، أمام عيون فرنسا الغاشمة، فدوّت الصفعات الاستعمارية في كل حي، واعتُقل المئات، لكنه ظل واقفًا، كجبلٍ لا تهزّه الرياح.
أدرك أن النضال بالكلمات لا يكفي، فحمل بندقيته، وصار العقل المدبر خلف كثير من التحركات السياسية والتنظيمية. لم يكن مجرد مناضل، بل صار قلب الولاية الأولى النابض، وأحد صنّاع بدايات 1 نوفمبر المجيد، حين اقتحم مدينة خنشلة مع أربعين مجاهدًا، فكان أول ضابط فرنسي يسقط على يديه.
كان عباس لغرور يملك عقلًا عسكريًا لامعًا، وشخصية كاريزمية، جمعت بين الحزم والتبصّر، حتى إن جنرالات فرنسا، بيجار وفرال، وصفوه بأنه “أدهى من خاض ضده معركة”. وبعض المعارك التي خاضها لا تزال تُدرّس اليوم في الكليات العسكرية الفرنسية كأمثلة نادرة في فن الكمائن والتخطيط الحربي.
لكن الثورة ليست طريقًا مفروشًا بالمجد وحده… ففي زمن الانتصارات والانشقاقات، حملته خطاه إلى تونس في أكتوبر 1956، ساعيًا لرأب الصدع بين الإخوة، وإقناع قادة الداخل والخارج بالتوحّد خلف قرارات مؤتمر الصومام. غير أن يد الغدر كانت أسرع من نداء المصالحة.
في عام 1957، سقط عباس… لا في ساحة معركة، ولا على يد عدو معلوم، بل في كواليس مغلقة، في ظروف غامضة… اغتيل كما يُغتال الكبار حين تضيق بهم صدور الحاقدين.
هكذا طُويت صفحة رجل، لكنه لم يُطوَ من ذاكرة الوطن. بقيت روحه ترفرف فوق قمم الأوراس، تصرخ في صمت:
“الحرية لا تُستجدى… الحرية تُنتزع، بالدم، والإيمان، والعهد الصادق”.
عباس لغرور، لم يكن مجرد شهيد… كان فكرة حيّة، لا تموت.