ماكتب عن الاميرمقلات

ذكرى العاقل وتنبيه الغافل… رحلة الأمير عبد القادر في إشعال نور العقل وبعث روح المعرفة

مقدمة

في عالم تتقاطع فيه الأصوات وتتنازع فيه الآراء، يظل صوت الأمير عبد القادر واحدًا من تلك الأصوات النادرة التي جمعت بين عمق العقل وصفاء الروح وقوة التجربة. وفي كتابه ذكرى العاقل وتنبيه الغافل، يكشف الأمير عن وجهه الآخر… وجه المفكر الذي يمسك بالقلم كما يمسك بالسيف، ويقود الفكر كما قاد الرجال في ميادين الجهاد.

ليس هذا الكتاب مجرد رسالة علمية، بل هو رحلة فكرية تهذّب العقل وتوقظ البصيرة. كتبه الأمير بعد أن بلغته أخبار إدراج اسمه بين علماء باريس، ففرح من لطف الله، واغتمّ من أن يُنسب إليه من العلم ما لم يكن يدّعيه، فقرر أن يكتب “هذه العجالة” تواضعًا وإخلاصًا. وهكذا ولدت رسالة تُشبه صاحبها: قوية المعنى، رقيقة الروح، نافذة الرؤية.

العقل… النور الأول الذي لا يبهت

يضع الأمير في مقدمة الكتاب أسس رؤيته: العقل هو أصل الإدراك، وميزان التمييز، وعليه تُبنى العلوم. لكنه عقلٌ لا يبلغ كماله بالانفصال عن النبوة، لأن في العالم معارف لا يمكن للعقل وحده إدراكها مهما بلغ من ترقٍّ. ومن هنا جاءت دعوته إلى الجمع بين نور العقل وهدي الوحي، فالعقل دليل، والنبوة طريق، ومن جمعهما فقد أخذ بأسباب المعرفة كاملة.

ويميز الأمير بين العلم المحمود والعلم المذموم، فالمحمود ما أصلح الدين والدنيا، والمذموم ما جرّ إلى فتنة أو فساد. إنها رؤية أخلاقية للعلم؛ رؤية تجعل المعرفة مسؤولية وليست مجرد امتلاك للمعلومات.

ذم التقليد… وإشعال شرارة التفكير

في مقدمة الكتاب يطلق الأمير إحدى أشهر عباراته التي باتت تُردد إلى اليوم:

“اعلموا أنه يلزم العاقل أن ينظر في القول ولا ينظر إلى قائله… فالعاقل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.”

إنها دعوة صريحة إلى التحرر من أسر التقليد الأعمى، وإعادة الاعتبار للنقد والنظر والتأمل. فالحكمة ضالة العاقل، يأخذها حيث وجدها، دون تعصب أو تقوقع. وبذلك يضع الأمير أسس نهضة فكرية تُبنى على الاجتهاد لا على الاتباع، وعلى العقل لا على الجمود.

فضل العلم… وسمو الإنسان بمعرفته

يمضي الأمير في كتابه ليؤكد أن شرف الإنسان ليس في القوة ولا في الجسد ولا في الطعام، فالفيل أعظم منه جسماً، والأسد أشجع منه بأسًا، وذوات البطون أوسع منه أكلاً… وإنما شرفه في العلم الذي هو خاصيته الكبرى. العلم هو الذي به يعلو الإنسان ويتميز، وبه تتقدم الأمم، وتُصنع الحضارات.

وفي هذا السياق يبرز التوازن النفسي والفلسفي لدى الأمير، إذ يعتبر أن القوى الأربع—العقل، الشجاعة، العفة، العدل—هي التي تُكوّن الإنسان الكامل، ولا كمال بلا اعتدال بينها.

الكتابة… الذاكرة التي تحفظ الحضارة

في الباب الثالث من الكتاب، يتناول الأمير فضل الكتابة، فيراها الوسيلة التي سمحت للبشر بتراكم العلوم وتقدمها. فالإنسان الواحد لا يستطيع استنباط العلم كله، ولكن حين يكتب ما يعلمه، يأتي من بعده من يزيد عليه، فتتوسع المعرفة جيلاً بعد جيل. بهذه الرؤية العميقة يجعل الأمير الكتابة جزءًا من حركة الارتقاء الإنساني.

ويذهب أبعد من ذلك، فيتحدث عن تصنيف الأمم بحسب عنايتها بالعلم، ويجعل العرب في مقدمة الأمم التي أثرت المكتبات ورفدت البشرية بمعارف لا تزال حية إلى اليوم.

خاتمة… صوت تاريخي لا يزال راهنًا

لم يكن كتاب ذكرى العاقل وتنبيه الغافل مجرد نص من القرن التاسع عشر، بل هو رسالة تصلح لزماننا كما صلحت لزمانه. فيه تأكيد على قيمة العقل، وتحذير من تقليد لا يُثمر، ودعوة إلى العلم، وتنويه بالكتابة، وتذكير بأن المعرفة هي الجسر الحقيقي الذي تعبر عليه الأمم نحو النهضة.

وفي كل سطر من الكتاب يظهر الأمير عبد القادر كما عرفه التاريخ: مجاهدًا في ساحة القتال، ومفكرًا في فضاء الفكر، وإنسانًا أدرك أن العلم أكبر من صاحبه، وأن العقل نور لا يطفئه الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى