بيعة الأمير عبد القادر: قائد مقاومة أم مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة؟ قراءة موسعة في دلالات “بيعة الدردارة”
مع حلول الذكرى 193 لبيعة الأمير عبد القادر تحت شجرة “الدردارة” بمنطقة غريس في 27 نوفمبر 1832، يعود هذا الحدث التاريخي ليطرح سؤالًا جوهريًا في تاريخ الجزائر الحديث: هل جاءت البيعة لتنصيب قائد مقاومة ضد الغزو الفرنسي فحسب، أم كانت إعلانًا عن ميلاد الدولة الجزائرية الحديثة بكل مؤسساتها؟
هذا المقال يقدم قراءة تحليلية معمقة لهذا الحدث المفصلي، بالاعتماد على شهادات المؤرخين وبنية المؤسسات التي أسسها الأمير بعد البيعة، مع التركيز على السياق التاريخي ودلالات هذا التحول السياسي.
بيعة الدردارة: توحيد الصفوف وبناء قيادة شرعية للمقاومة
تشير معظم المصادر التاريخية إلى أنّ بيعة الأمير عبد القادر كانت قبل كل شيء استجابة لضرورة توحيد القبائل الجزائرية في ظل الغزو الفرنسي الذي بدأ سنة 1830.
فالمؤرخ الدكتور لحسن جاكر يؤكد أن البيعة كانت «حدثًا محوريًا ساهم في توحيد الجزائريين لمقاومة الجيش الاستعماري الفرنسي»، مشيرًا إلى أن القبائل اختارت الأمير لما تمتع به من:
- ثقافة دينية واسعة
- مكانة اجتماعية وروحية مؤثرة
- شجاعة وقوة شخصية
- قدرة على القيادة وتنظيم الصفوف
ويضيف الباحث حمايدي بشير أنّ البيعة كانت «وطنية شاملة ولم تقتصر على منطقة معينة»، وهو ما يؤكد أن الدافع الأساسي وراءها كان تنصيب قائد شرعي للجهاد والمقاومة.
ما بعد البيعة: من قيادة المقاومة إلى تأسيس الدولة الحديثة
ما إن تقلّد الأمير عبد القادر قيادة البلاد حتى تجاوز دوره كقائد عسكري، ليشرع في بناء ما يمكن اعتباره النواة الأولى للدولة الجزائرية الحديثة، وذلك من خلال تأسيس مؤسسات متكاملة توازي ما كان معمولًا به في الدول القائمة آنذاك.

1. مجلس الشورى الأميري
كان هذا المجلس سلطة رقابية لا تخضع لسلطة الأمير وحده، بل له صلاحية محاسبته، ما يعكس ميلاد نظام حكم يقوم على الشورى والرقابة وليس الحكم المطلق.
2. القضاء المدني والعسكري
أسس الأمير محاكم مستقلة يشرف عليها نخبة من العلماء والفقهاء والقضاة، في خطوة تؤكد تأسيس نظام عدلي حديث مبني على الشرع والانضباط.
3. تنظيم الجيش وتحديثه
أصدر الأمير منظومته العسكرية الشهيرة “وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب”، التي وضعت قواعد واضحة للرتب والانضباط وتشكيل الوحدات، محولًا المقاومة من تحالف قبلي إلى جيش نظامي محترف.
هذه الخطوات تؤكد أن الأمير لم يكن مجرد قائد مقاومة، بل رجل دولة يسعى إلى بناء مؤسسات مستقرة رغم ظروف الحرب.
بيعة الأمير عبد القادر: إعلان السيادة الوطنية
رغم أن الأمير لم يُلقّب بـ”ملك”، فإن لقبه «الأمير» أو «أمير المؤمنين» حمل دلالات سياسية ودينية قوية تمنحه شرعية قيادة الأمة والجهاد، وتمنح الدولة الناشئة صفة السيادة في مواجهة قوة استعمارية أوروبية.
وبذلك، يمكن القول إن بيعة الدردارة كانت لحظة تأسيسية لثلاثة معالم رئيسية:
- توحيد الجزائريين ضد الاستعمار
- إقرار القيادة السياسية الشرعية
- بناء مؤسسات الدولة الجزائرية الحديثة
لقد استطاع الأمير عبد القادر بين 1832 و1848 أن يجمع بين الرؤية السياسية والقيادة العسكرية والبعد الحضاري، ليشكل إحدى أهم التجارب في بناء الدولة في ظروف الاحتلال.
خلاصة
ن بيعة الأمير عبد القادر لم تكن مجرد اتفاق قبلي على قيادة الجهاد، بل كانت إعلانًا عن ميلاد كيان سياسي جديد يسعى إلى حماية الأرض وبناء مؤسسات الحكم وإدارة المجتمع.
واليوم، بعد مرور نحو قرنين على تلك اللحظة، يبقى الأمير عبد القادر رمزًا مؤسسًا للدولة الجزائرية الحديثة وواحدًا من أبرز رواد المقاومة المنظمة في العالم.



