انشاء الجيش

في زمن تلاطمت فيه أمواج التحديات، وتعاظمت فيه الحاجة إلى بناء دولة قوية، أدرك الأمير عبد القادر أن مفتاح القوة يكمن في جيش قوي ومنظم. لم يكن هذا الإدراك مجرد فكرة نظرية، بل كان نابعًا من فهم عميق للواقع الذي كانت تعيشه الجزائر بعد رحيل الأتراك. فالفوضى التي سادت، والاضطرابات التي انتشرت، جعلت من الضروري وجود قوة عسكرية قادرة على فرض النظام والأمان.
تقسيم الجيش
تألف جيش الأمير عبد القادر من فئتين، هما: الجيش النظامي، والجيش غير النظامي أو الجيش المساعد.
الجيش غير النظامي ( أو الجيش المساعد)

كان الجيش غير النظامي في صفوف الأمير يتكون من المتطوعين الذين كانوا يلبون نداء الجهاد، بلغ عددهم 83 ألف مقاتل من فرسان ومشاة مطلع 1838م ، ( Paul 138 : 1925 ,Azan). )Leon Galibert, 1846 : 500-501 شكلت هذه القوة الجزء الأكبر من الجيش، وكانت دائما السباقة في الالتحاق بالقوات النظامية إذا ما دعت الظروف لذلك، وبعد انتهاء الحرب تعود هذه القوة إلى موطنها. لكن الأمير سرعان ما اكتشف عدم كفاءة هؤلاء المحاربين، فبدأ ينظم جيشا نظاميا لدولة عسكرية كبرى،
الجيش النظامي
لقد كان التحدي كبيرًا أمام الأمير، فالجزائر لم تعهد نظامًا موحدًا يجمع شتات قبائلها تحت راية وطنية. كانت الولاءات مبنية على أساس قبلي وعشائري، حيث يدين الفرد بالولاء لقبيلته أولًا وأخيرًا. وفي هذا السياق، كان لابد من إعادة تشكيل هذه المفاهيم وصبغها بصبغة وطنية تجمع بين أفراد المجتمع.
أخذ الأمير على عاتقه مهمة بناء جيش قوي، يستطيع ليس فقط مواجهة التحديات الخارجية، بل أيضًا توحيد الصفوف داخليًا. فبدأ بإنشاء جيش منظم يضم أفضل الفرسان والجنود، مستخدمًا أحدث التقنيات والعتاد المتوفر آنذاك. كان هذا الجيش رمزًا للقوة والانضباط، وأصبح أداة فعّالة لإظهار سلطة الدولة.
واضع شروطا للانضمام إلى هذا الجيش، من أهمها:
1 – أن يكون الجندي جزائري ، مسلما، عاقلا، بالغا وحرا.
2- أن يكون صحيح الجسم قوي البنية.
3- أن يدون اسمه في سجلات رسمية، أي الدفاتر الأميري لتحديد واجباته وحقوقه.
-3- أن ينصرف إلى القتال انصرافا تاما، فيمتنع عن تعاطي أي نوع من أنواع المهن الأخرى مثل الزراعة، التجارة الصناعة وغيرها ) محمد بن عبد القادر الجزائري، 1974 (191)
ارساء قواعد التجنيد
إلى جانب ذلك، عمل الأمير على تغيير نظام التجنيد في المجتمع. فبدلاً من نظام الميليشيات المؤقتة التي كانت تُشكَّل في أوقات الحروب فقط، سعى إلى إقامة نظام جندي دائم يضمن استقرار الجيش وجهوزيته في كل الأوقات.
ولذلك أعطى الأمير هذا الجانب أولويته المستحقة لأنه أدرك وللوهلة الأولة بأن سلطانه سيظل دوما عرضة للخطر والزوال، وسينهار مع أول مواجهة حقيقية مع العدو الفرنسي صاحب الجيوش المدربة المنظمة والعتاد الحربي الحديث والضباط الكبار الأكفاء والجنود النظاميين ذوي الكفاءة العالية تدريبا وقتالا، وأن مقاومة المحتل ينبغي أن يعد لها العدة الكاملة، وتهيىء لها كل الظروف المادية والبشرية، فالقضية أصبحت صراعا على البقاء والدوام، واستفاد الأمير من تجارب غيره في هذا المقام “حيث كانت ثورات القبائل المتفرقة تضع نصب أعينها النضال قبل التنظيم والإعداد، ولم يستطع زعماؤها أن يتجاوزوا حدود القبيلة أو الإقليم” وعليه وبعد عودته من واقعة الدوائر عقد مجلسا عموميا من رجال الدولة وأعيان الرعية وزعمائها، وخطب فيهم خطبة أوضح فيها فوائد العسكر النظامي ومنافعه” وأخبرهم أنه اعتزم على تنظيم عدد منه كاف، فأجابه الجميع إلى ذلك ووافقوه عليه، وطفق المنادي ينادي بأعلى صوته في الأسواق: ليبلغ الشاهد الغائب أنه صدر أمر مولانا ناصر الدين بتجنيد، وتنظيم العساكر من كافة البلاد فمن أراد الدخول تحت اللواء المحمدي ويشمله عز النظام، فليسارع إلى دار الإمارة” معسكر” ليقيد اسمه في الدفاتر الأميرية “
وبهذا بدأ عهد جديد في تنظيم جيش تحت لواء الأمير عبدالقادر . وبذلك اعتبر الأمير المجاهد ” أول من كون جيشا وطنيا منظما وموحدا بناه من العدم وهيأ له الوسائل وأنشأ مصانع تنتج الأسلحة الملائمة مستعينا بخبرة الإسبانيين والفرنسيين وغيرهم “.

التكفل بمهمة التنظيم
تصدى الأمير بنفسه لتدريب وتنظيمه والإشراف عليه لما يمثله هذا القطاع من أهمية بالغة فعليه تتوقف قوة الدولة وعزتها ومناعتها، فلا بد إذن أن يكون الإشراف مباشرة من الامير نفسه وهو يعلم الصغيرة والكبيرة فيه فقسم جيشه إلى ثلاث فرق:
فرقة المشاة
فرقة الخيالة
فرقة المدفعية

ووضع دستورا أو قانونا عسكريا” يحتوي على آخر التفاصيل المتعلقة بالانضباط والرواتب وملابس جنده، وكانت هذه التنظيمات تقرأ مرتين في الشهر لمختلف الوحدات وكانت تتخللها الوصايا والعهود للسلوك الطيب.

سن قوانين الجيش
وبتكليف من الأميروضع أحد معاونيه رسالة جامعة لكل القوانين والضوابط والنواهي والاوامر، وكل ما يتعلق بأمور الجند سماها ( وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب ويليه ديوان العسكر المحمدي الملياني ) استهلها كاتبها بإيراد التكليف الوارد من الأمير بقوله: ” وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغائب مما أمر بتنفيذه سيدنا ومولانا أمير المؤمنين مولانا الحاج عبدالقادر نصره الله آمين” وقد أوضح مؤلف كل ما يتعلق بالجند من نظام ولباس وعدة وعتاد وأسماء الضباط والقواد والجنود، وهي وثيقة هامة لا يستغنى عنها في دراسة الجوانب العسكرية لدولة الامير عبدالقادر الجزائري.
وعن طريق هذه السياسة الحكيمة المنتهجة بدأت النواة الاولى لجيش نظامي يتشكل من أفراد شعب” لم يعرف التجنيد الإجباري حتى أيام الحكم التركي، شعب تثور طبيعته حتى من مجرد فكرة التجنيد الإجباري”.

كسوة الجنود:
وضع الأمير عبد القادر لكل صنف من الجنود نوعا خاصا من اللباس قد يكون من الجوخ أو الكتان العادي
فرئيس العسكر المحمدي , ورئيس الخيالة يختصون بالأحمر القاني الجيد
والسيافون , وكتاب الدرجة الأولى ومعملو الحرب والطنبروجي والخيالة يختصون بالأحمر الفاتح من الجوخ المتوسط الجودة
ورئيس الصف يختص بالغليلة من الجوخ الأسود والسروال الأحمر
ورئيس الخبالة يختص بسروال اسود وغليلة حمراء عكس رئيس الصف أما الكتان العادي فهو لباس سائر جنود العسكر المحمدي الأخرين
شارات الضباط الجنود :
الآغـــــــة :
رئيس العسكر المحمدي له أربعة علامات من ذهب اثنتان على منكبيه احداهما مكتوب عليها أشهد ان لا إله الا الله وأشهد ان محمد رسول الله والأخرى مكتوب عليها الصبر مفتاح الفرج واثنتان على صدره في شكل قمر الأولى مكتوب عليها لاإله الا الله واليسرى مكتوب عليها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
رئس الخيالة
له علامتان من ذهب إحداهما على منكبه الأيمن مكتوب عليها الخيل معقود بنواصيها إلى يوم القيامة
والأخرى على الأيسرمكتوب عليها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
السياف
له علامتان من الفضة على شكل سيف فوق عضديه اليمنى مكتوب عليها لا أنفع من التقوى والشجاعة واليسرى مكتوب عليها ولا أضر من المخالفة وعدم الطاعة
سياف الخيالة
له علامة واحدة من الفضة على عضده الأيسر مكتوب عليها أيها المقاتل احمل تغنم
رئيس الصف
له علامة واحدة من الفضة على عضده الأيمن مكتوب عليها من أطاع رئيسه واتقى مولاه نال مايرجوه ويتمناه
نائب رئيس الصف
له علامة واحدة من الجوخ الأحمر على ساعده الأيمن
البـــــاش كــــــــاتب
له علامة واحدة من الفضة على شكل قمر على ساعده الأيمن مكتوب عليها ناصر الدين
رئيس الطوبجية
له علامة واحدة من الفضة على كتفه الأيمن في شكل مدفع مكتوب عليها وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
يقول تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) سورة الانفال آية60 –
تجهيز الجيش
وبطبيعة الحال فلا بد لهذا الجيش الفتي من عتاد وأسلحة حتى يقوم بالدور المنوط به على أحسن وجه، فلا جيش بلا سلاح ومتى كان التسليح والتدريب جيدان فإن الجيش يصل إلى درجة يمكن الاعتماد عليه داخليا وخارجيا، ولذلك جعل الأمير من تسليح الجيش مهمة أساسية قام بأعبائها أحسن قيام، وطرق كل السبل لتحقيق هذه الغاية النبيلة، فمن بين الإجراءات الأولى التي اتخذت لحماية عاصمة الدولة الجديدة هي تزويدها بالمدافع، كما وجه بعثات كثيرة إلى مختلف الدول لشراء الاسلحة، اتفاقا مع سياسته التي ترتكز على الحصول على السلاح من أي جهة وتنويع المصادر فهو يقول في إحدى شاهداته:” بالإضافة إلى القوات التي ترسلها إلي القبائل الخاضعة لي، وقوات حلفاء …. كان لدي مؤخر جيش نظامي مكون من ثمانية آلاف جندي (8000)، وألفي فارس أو صبائحي و(2240) مدفعاً وكان عندي عشرون مدفع ميدان، دون ذكر مخزن كبير من المدافع الحديدية والنحاسية التي خلفها الأتراك، والتي كان كثير منها في الواقع غير صالح للاستعمال”.
كما سعى جهده لاستيراد السلاح من الدولة الوحيدة التي عارضت الغزو الفرنسي وهي انجلترا، ولكنه فشل .

ونظرا لخطورة تجارة السلاح ” فإن عبدالقادر لم يسمح لقواته بشراء الأسلحة والذخيرة، وإنما حصر هذا العمل به وبمن ينتدبه” .
التصنيع

وسعى جاهدا لبناء معامل الذخيرة والسلاح، في كل من” معسكر” و”تاقدامت” مستعيناً بالخبرة الاجنبية ” فجاء برجال الصناعة الاختصاصيين في عمل السلاح من الخارج فكان منهم الإسبان والطليان وفرنسيون أيضا وكان الامير يختار المواقع الاستراتيجية الحصينة، كاختياره ” لمليانة” التي بنى بإحدى ضواحيها مصنعا هاما لصنع الأسلحة والذخيرة الحريبة، نظرا لما تتمتع به هذه المدينة من موقع حصين، ومن توفر المادة الأولية بها، بالإضافة إلى صلابة سكانها وبلائهم في الجهاد، والدفاع عن الوطن وهكذا أوجد الأمير صناعة حربية محلية، تعتمد على الموارد الذاتية، وعيا منه بأن السلاح أداة ضغط، فوجب الاعتماد على النفس، وبدأت مصانع الأمير في انتاج سلاح جزائري خالص ، وبالإضافة إلى ماتنتجه المصانع من أسلحة، فقد كان جيشه يتسلح بما يغنمه من معاركه مع الفرنسيين.
ولانعدام وسائل النقل المتطورة، في دولة الأمير، اعتمد الوسائل التقليدية من بغال وحمير وخيول التي حاول عبدالقادر توفيرها لفرسانه فجعل لها نظارة خاصة، ويقول تشرشل على لسان الأمير : ” فقد أعطيت الأمر لخلفائي أن يقبل بدل الضرائب والغرامات، المواد الاستهلاكية والبغال والإبل وبالأخص الخيول، وكنت أستفيد من هذا كله فأركب فرساني على الخيول وأجعل البغال والإبل وسائل النقل” وكان يطبع على كتف خيل الأمير حرف (S)وإذا قتل الفرس في المعركة فعلى الفارس أن يقطع الحرف من الحصان” ويأخذه إثباتا لذلك وفي حال فقدان عدد من الخيول إثر معركة ما، يصار إلى استبدالها بأخرى من المنطقة التي تحصل فيها المعركة.”

ولحكمة القائد المدرب الواعي راح الأمير يرتب الجيش ويدربه وينظمه ويسلحه فيحسن تسليحه بقدر ما أتيح له ذلك، فأنزل بالعدو ضربات موجعة الى أن ” لقبه الفرنسيون بأبي ليل وبأبي نهار”
ثم إن انتهاج عبدالقادر في تدريبه لجيشه لمبادئ قتالية خاصة رأى أنها صالحة لجنده، كانت نابعة من معرفته بطبيعة البلاد بجبالها ومسالكها فاستفاد من هذا، في أن يكون دوما صاحب المبادرة في النزال، ومفاجأة العدو ومهاجمته من حيث لا ينتظر.
وقد شابهت معاركه آنذاك حرب العصابات الحالية، فنأت عن الحرب النظامية واعتمدت أسلوب المباغتة والكر والفر بما يلائم قواته، وليس هذا جهلا من الأمير بخطط المعارك ” ولكنه فضل المباغتة والكمائن ورفض التقيد بقانون قتال أو تنظيم معين “


